مشى عبد الله بن عُمر -رضي الله عنه- في طريق فخفض رأسه في جزءٍ منه ثم رفعه، فقيل له: لمَ فعلت ذلك؟
فقال: كان هناكَ شجرة، ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ها هنا يومًا، فخفض عندها رأسه كما رأيتم.
ولما وقع خبيب بن عدي -رضي الله عنه- أسيرًا عند العدو، فلما أرادوا أن يقتلوه أخرجوه إلى الحل، وقالوا له: (هلم يا خبيب! أتود أن يكون محمد مكانك هنا ونخلي سبيلك) فقال: لا والله لا أرضى له ذلك، بل ولا أن يُشاك بشوكة وهو في مكانه بالمدينة. فقال أبو سفيان:
«ما رأيت أحدًا يحب أحدًا كحب أصحاب محمد لمحمد».
و حمزة سيد الشهداء -رضي الله عنه- لما عاد من الصيد، وقصت عليه جارية عبد الله بن جدعان ما قاله أبو جهل، حيث كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم عند الصفا وحيدًا، ومر عليه أبو جهل فتطاول على الله بلسانه وبالسباب المقذع. فسكت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرد عليه. ثم قذف أبو جهل عليه من الله ما يستحق رسول الله -صل الله عليه وسلم- بحجر، فشج رأسه الشريفة ونزف منها الدم، وانصرف بعد ذلك ذاهبًا لقريش في مكة ليحكي ما فعله مع رسول الله مفاخرًا به. تحركت المشاعر القبلية الهاشمية الشريفة لدى حمزة، ومشاعر الغضب ضد أبي جهل، ومشاعر النخوة لنصرة ابن أخيه المظلوم، ومشاعر الحب لرسول الله وأخيه عبد الله.
فانطلق حمزة حاملًا قوسه وعلى مرأى ومسمع من مكة، فهوى على رأس أبي جهل بقوسه فشجها وسالت منها الدماء، ثم قال له: أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟ فرد علي ذلك إن استطعت!
هذا حال ابن عمر وخبيب وحمزه والقائمة تطول رضوان الله عليهم جميعًا ممن عاشوا في ظلال حب النبي صلى الله عليه وسلم، وفدوه بقلوبهم ودافعوا عنه بأرواحهم وأموالهم وأولادهم. تمثلت أمامهم مكارم الأخلاق، واصطفت لهم كل شيم الكرام، وتجسدت كل معالم الجمال في شخص ذاك النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.
تشنفت آذانهم بسماع آي القرآن منه، وتشرفت أرواحهم بالري من معين الهدى والحق بين يديه، وانثنت العقول وسكنت القلوب من جمال منطقه ولين حواره وجواره، وقرة العيون بتكحيل ناظرها برؤية محياه الأبلج الطاهر. آه على زمن مضى ظفر به الصحابه أي ظفر، فنالوا به شرف الصحبة، بل عز الدنيا والآخرة.
حقًا تتقاصر الأحرف ويجف المداد، ويقف شاخصًا أمام عظمته، وخُلقه، ونبيل صفاته صلى الله عليه وسلم.
وكعادة السفهاء في كل زمن، أراذل القوم، المذكورون في مزابل التاريخ على مر السنين، الذين لا يفتؤون من النيل من كل شريف وعظيم، وأي عظيم يصل إلى مقام النبي صلى الله عليه وسلم وجنابه.
إنهم النكرات في زمن المعرفة، والتائهون في ساعات اليقظة، فقراءالأخلاق، سفهاء الأحلام، من هوت بهم عقولهم إلى أسفل سافلين، فأخذوا يتطاولون بالهمز واللمز، والسب والرسم، في مقام الصادق الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، فكيف يرمي الوضيع النجم الرفيع، وكيف ينال القاع من القمة، بل وكيف يصل الصفر إلى المئة! ولا عجب فليس بعد الكفر ذنب، وإن شانئه صلى الله عليه وسلم مهما طقطقت بهم المراكب، وهملجت بهم البراذين، فهم الأبتر ذكرًا، المغمورون شرفًا.
ومن هدي المسلم أن يرى في كل محنة منحة، وفِي كل بلاء رحمه. لننظر إلى جانب آخر من هذه القضية فلا نكتفي أن نكون ردود أفعال لكل زاعق وناعق. نعم نغضب، وتضيق صدورنا، وتبح حناجر، بل ونقاطع كل منتجات من عادى نبينا، وانتقص من قدره صلى الله عليه وسلم.
ومع أهمية ذلك كله علينا ألا ننسى دورنا الحقيقي في أن نعقد العزم على تدارس سيرته، واتباع سَننِه، والتعرف على أخلاقه وشمائله. فكيف تنصره وأنت لا تعرف اسمه ولا نسبه، ولا خَلقه ولا خُلقه، ولا حتى هديه ولا سننه.
لنعظم هذا النبي الكريم في نفوس أبنائنا ولنعرفهم به، فيوقروا سنته وسيرته ومقامه، ثم لننشر عبق ذلك بين من عرفنا وبين من لم نعرف.
لنعيش مع قصص الصحابة، ومع حبهم وشوقهم ودفاعهم عن سيد الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، لعل أن يكون حالنا يومًا كما قيل عن أصحابه الكرام رضوان الله عليهم: ما رأيت أحدًا يحب أحد كحب أصحاب محمد لمحمد صلى الله عليه وسلم.