أُطفِأت الأنوار، وغُلِّقت الأبواب، ومع صريرها باغتني هذا العنوان، فدونته في مفكرة هاتفي لعلي أكتب عنه يومًا ما.
وبعد عام من ذلك الموقف، قررت أن أحكي عن تلك المشاعر، و ذلك الحنين الذي يهز كل من مر بذات الحال.
كنّا أربعة، انطلقنا في ذاك المساء على غير العادة، بمشاعر مختلفة، لعله الوداع الأخير، بنظرة باسرة، وقلب أسيف، أجر تلك الخطى المتثاقلة فهي تقودني رغمًا عني وعنها، إنها الأقدار يا صحب.
كنّا أربعة، سرنا من الشرق الجديد وحتى الجنوب القديم، وكلما اقتربنا زاد نبض قلبي وانقباضه، وبلغ بي الشوق الحناجر، وامتلأت الدموع في المحاجر.
كنا أربعة، وكلما اقتربنا بدأت ذكريات الأماكن والطرقات تحيط بي من كل جانب، بل أشم ريحها! فالحب قاتل، لتقول بصوت مبحوح: ها قد عدت بعد غياب طويل فهل زارك الحنين؟ أم هو مرور الكرام المغادرين؟
تعاتبني، ولَم تعلم أني انتزعت انتزاعًا من مهد الصبا، ومن مراتع الطفولة.
كنّا أربعة، بدأت الشوارع تضيق، والأزقة تتراءى بين ناظري، والناس بين غائد ورائح، أما سيل الذكريات فيزيد ويزيد، اقتربنا من ذلك الشارع المزدحم، يا الله كم لنا من صولات وجولات فيه، بل وكم تعبنا من الانتظار في جنباته، وكم اشتكى من ازدحامه كل زائر ومحب.
نعم، قد كان مزدحمًا بكل شيء، بطفولتي وصباي، وبكل ذكرى سكنت في فؤادي وربت.
هناك.. نعم على اليمين، المدخل الرئيسي لقلبي، أقصد.. لحارتي القديمة، ولذكريات عمري الجميل، ها هي جدرانها الشامخة الأبية تحكي عمقها وعبق تاريخها وأيامها، بدأت مطبات الطريق ترجنا رجًا، لقد افتقدتها كثيرًا، وهكذا نحن عندما نبتعد نحنّ لأدق التفاصيل، بل ونستلذ تعب كل شيء مضى مهما كانت مرارته وقسوته، كان مما رأيت بقاله عبدو، ومسجد الترمذي، وذلك الكرسي البلاستيكي القابع أمام مطبخ أبو عادل الذي كنت أتأمله كثيرًا وأهرب منه أكثر، فكم كان يجلس فيه والدي الحبيب رحمه الله.
تفاصيل الحارة، وأجوائها وترابها، وأهلها وسوقها، صخبها وسكونها، أصوات المارة الذين تميزهم، جيرانك الذين يتعهدونك، كلها ذكريات لن تكرر للأبد.
اقتربت ثم اقتربت، ليقف بيتنا الشعبي ماثلاً أمامي، ولأقف أمامه وعلى أطلاله، كما كانت تقف العرب أمام ديارها لترثيها. وقفت أمامه مطرقة الرأس كإطراق الطفل الصغير أمام والديه، لقد بدى خاليًا من كل شيء إلا من ذكرياته المحفورة في دهاليز القلب.
حقًا إنه هو بيت العمر، ذلك البيت الذي عشت فيه أغلى ذكرياتي، وأحب أيامي، وأقسى تجاربي، فارقت فيه أعز أحبابي، وودعت فيه بعض من أركان قلبي؛ أبي وجدتي رحمهم الله.
هنا ضحكنا، وهناك بكينا، هنا فرحنا، وهناك حزنّا، هنا تشاجرنا، وهناك تصالحنا، هنا قضينا أيامنا الحلوة والمرة.
هنا سهرنا على ضوء القمر، في تلك البلكونة الصغيرة المطلة على تلك الصالة التي جمعتنا كثيرًا بل جمعت تفاصيل جمة من المشاعر والأحداث، هنا غرفة أمي حفظها الله وأبي غفر الله له، وهناك غرفة نومنا بل ومجلس ضيوفنا العامر.
أما عن ذلك الدور الأرضي والعلوي فقد قضى فيه إخوتي كثيرًا من أيام عمرهم الجميل، عزابًا أو متزوجين، ولهم فيها ذكريات تسجل في ثنايا القلب دهرًا.
أما ذلك الدرج الجامع بينهما فقد كان مستراحًا لنا عند زخات المطر الآسرة، وليال الشتاء الباردة.
تذكرت وأنا أقلب النظر بين أروقة البيت وجدرانه، قول الشاعر:
دعني من الدار أقليها وأرثيها
إذا خلت من حبيب لي مغانيها
ذو الروامس تمحو كل مادرست
آثارها ودع الأمطار تبكيها
إن كان فيها الذي أهوى أقمت بها
وإن عداها فإني سوف أقليها
صدقًا إن غادرتنا المشاعر فلن تنفع الجدران ولكنني لن أُقْلِيه، ولن تمحو الروامس آثاره في قلبي، فمهما ابتعدنا ومهما سكنا في أكبر الدور وأجملها، يبقى الحنين أزليًا لبيتك القديم، لمراتع طفولتك، وأيام شبابك، بل ولأول ذكرياتك.
مهما ابتعدنا سيقودنا الشوق دومًا لذلك المكان.
انتهينا الأربعة، من جمع ما تبقى من كتب وأوراق، ومشاريع قد طواها النسيان، ومن لملمة ذكرى لا تهدى ولا تباع.
أطفأت أختِي الأنوار، وغلقت الأبواب، وبعدها انتهى كل الكلام.