خلال الاسابيع القليلة الماضية بلغتني أخبار مُتفرقه عن اشخاصٍ أعرفهم ولا أعرفهم، كانوا في أوج شبابهم وقوتهم وصحتهم، يشتركون في حدث واحد ألا وهو أنهم أغمضوا أعينهم في غُرفهم الباردة على أسرتهم الوثيرة ثم لم يفتحوها إلا في قبورهم وقرع نعل المُشيعين يخرق آذانهم.
ذلك الحق الذي نفر منه جميعنا ، تلك الحقيقة التي نتعامل معها وكأنها وهم ، حقيقة ( الموت) ، وموت الفجأة تحديدًا هو ما نُلاحظ انتشاره هذه الأيام ، وهذا ما أخبر به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حين قال “إن من أمارات الساعة أن يظهر موت الفجأة، كما رواه الطبراني والألباني، كما ورد عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ مَوْتِ الْفَجْأَةِ؟ فَقَالَ: «رَاحَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، وَأَخْذَةُ أَسَفٍ لِلْفَاجِرِ».
كم من عينٍ باتت تنظر لمشهدٍ فاضح ثم لم تُفتح بعد ذلك ابدًا، وكم من لسانٍ أستحل حُرمات المُسلمين ثم لم ينطق بعد ذلك ابدًا، وكم من نفسٍ حقدت وحسدت وكادت وتآمرت ثم اُخذت لبارئها بكُل تلك المساوئ، وكم من عاقٍ بات ووالداه منه غاضبان ثم لم يستيقظ من مبيته ذلك ابدًا! وكم وكم من الذنوب نحملها ونحن نُمني أنفسنا بتوبةٍ الغد وكأننا نضمن أعمارنا للدقيقة التالية من الآن فقط فما بالك بالغد!
حقيقة الموت أنه النهاية الحتمية لكل الموجودات في هذا الكون، وما من باقٍ الا وجهه الكريم، ومع تلك الحقيقة التي نؤمن بها جيدًا ، إلا أننا نتمادى في إسرافنا على أنفسنا، نزداد جُرأةً على بارئنا، ونُبدع في الطغيان والظلم والحقد وقطيعة الرحم ، ونزداد قسوة وتجبرًا في تعاملاتنا وعلاقاتنا بل ونتفنن في الايذاء والانتقام وزرع كُل شعور سيء في قلوب الآخرين.
نزداد عُهرًا وتعريًا مع علمنا الكامل أننا نمشي اليوم فوق الأرض بأجسادٍ ما هي إلا جثث الغد القريب.
نُمعن في المجون وارتكاب كُل رذيلة وقد رتبنا مُبرراتنا الغبية في عُقولنا ونسينا أن نُدرج ضمن تلك المُبررات ساعة الموت المُفاجيء.
ولإنني (إنسان) حزنت وتأثرت وكتبت، ولكني بحالٍ مثل حالكم غدًا سأنسى، لذا وجب علينا استحضار هذه الفكرة الدائمة في عقولنا، فكرة أن الموت سيأتي فجأة وأسرع مما نتوقع، عندها فقط لن نؤجل توبة، ولن نتخاذل عن طاعة، لن نُطيل الخصام وسيسقط من نفوسنا الكثير الكثير من سخافات نزاعاتنا الدنيوية، لن نترك اقدام أمهاتنا، ولن نكف عن تقبيل أيدي آباءنا، لن يُخالط عملنا رياء، ولن تغرنا أنفسنا بالكِبر والغرور، لن نُخزن مشاعرنا، لن نترك أحبابنا دون أن نخبرهم في كُل دقيقةٍ أننا نُحبهم بكل ما تستوعب قلوبنا من عمق.
لنتعلق بفكرةِ أننا مُغادرون وماهذه الدُنيا إلا كصالةِ إنتظار وكُلنا لا نعرف متى سُتغادر الطائرة التي ستأخذنا منها، حين ندرك هذه الحقيقة لن يبقى في قلوبنا متسع لغل أو حقد، ولن نجد لذةً في سكب أوقاتنا فيما حرم الله، حين نُدرك هذه الحقيقة ونبقيها نُصب أعيننا، لن نرى الدنيا كما كُنا نراها، ستكون بالنسبة لنا أحقر من جناح بعوضة.