بقلم| سكينة الشمري
تضغط سبابتها الرشيقة بانفعال فوق زر إيقاف مسجل السيارة، وتدير إطاراتها بسرعة ثم تواصل بخط مستقيم فيما لا تحرك ساكنًا كأنها جزءًا من أجزاء السيارة. وتتكاثر في داخلها علامات الاستفهام والتعجب حول كل مايحدث. الأحداث التي تنتظر عقب كل واحد منها أن يذاع بأنه مجرد مزحة غير معتادة من محطة الأخبار المحلية. تتذكر نصًا قد كتبته ذات يوم: ” كل يوم اضطر لدفع ثمن حماقة جديدة من حماقاتهم، فمتى يدرك الأحمق حماقته وتعاد الحقوق..! “
تواصل السير بخط مستقيم وإنما بطريق وعر، تأخذها مطباته لتذكر أحداث غير آكدة بأنها قد حدثت، تتساءل كم مر من الوقت قبل أن يصبح الوطن قضيتها الأولى وكم سيمضي قبل أن تخف حدة غضبها تجاه ذلك!
تتساءل أحقًا مرت الشهور الستة الأخيرة دون أن يرصد أسمها في عداد الموتى، وهل حقًا قد اختبرت تجربة المبيت تحت السلم الأسمنتي المقوى علّها تأمن دمار صاروخًا عبثيًا قريب!
تتأمل يديها لأول مرة منذ أشهر، الجروح والكدمات الصغيرة، أظافرها المهملة، تحاول التأكد من وجودها على قيد الحياة من جديد وتتأمل..
إضاءة المنزل الخافتة وسكون قطع الأثاث وهي مستسلمة بهدوء بانتظار تمكن زرقة الفجر الأولى منها وهي تتسلل للمنزل ملتزمة بما تتيحه لها الأخرم الصغير في الستائر عبر زخارفها.
أصوات المركبات الذاهبة والآئبة من بعيد.
وزقزقة الطيور التي تدخل للمنزل من كل مكان.
وأنين تلك الحمامة الواقفة على عتبة شباك نازلي التي روت لها والدتها كما ورثتها أمًا عن جدة بأن الحمامة تنادي دائمًا بحثًا عن أختها التي سكنت الحلة بالعراق وتعيش على أكل الباقلاء.
سكون اللوحات المرسومة بأيد فنان ماهر وهي معلقة فوق جدران منزلها.
صوت ضربات قلبها وهي تصل لأذنيها كأصوات أميال الساعة.
أنفاسها وهي ترفع صدرها تارةً وتخفض بطنها ثم تعيد الكرة مراتً عديدة كأمواج البحر البعيدة.
ألاف الأفكار التي تقف حبيسةً لوعيها حتى لا تدركها فتنهمر دموعها شفقةً وتأثرًا بما حدث..
محاولاتها العديدة في أن تغمض عينيها دون الإنشغال بقوة قطع أثاثها وهي تقف صلبة أمام كل ما سمعته وشاهدت نازلي تمر به عبر الستة أشهر السالفة.
تنظر لخارج النافذة بنظرة نائية، تتذكر ماحدث وتتذكر ردات فعلها حوله وصلابتها في كل ذلك بل وأكثر من الصلابة فلقد استمرت في المضي قدمًا تاركةً ورائها كل تلك الانهيارات والركام كأنه لا يخصها أو كأنما قد عقدت اتفاقًا مع أحدهم بأن تكمل المهمة التي تواجدت لأجلها دون الحياد عنها.




